عن كتابه”تحولات فن التشكيل في أوروبا نحو الحداثة”
كتب مروان ياسين الدليمي على موقع القدس …2019
القراءة العميقة للتحولات التي شهدها الفن التشكيلي في أوروبا نحو الحداثة، إضافة إلى التجربة الطويلة التي قطعها د. عبد الكريم فرج في ميدان تدريس الفن في كلية الفنون الجميلة في دمشق، كانت من الأسباب الجوهرية وراء تبلور أفكاره النقدية ونضجها، وهناك إشارة واضحة منه تصدرت كتابه الموسوم “تحولات فن التشكيل في أوروبا نحو الحداثة” يعبر فيها عن امتنانه العميق للناقد الانكليزي هربرت ريد، نظرا لما يمتلكه من رؤية تحليلية علمية في إبراز التجارب الفنية وانبثاقها من عمق التحولات التاريخية، ولأجل أن يضع أمام القارئ مفاهيمه النقدية للعمل التشكيلي ورؤيته الفلسفية التي يؤكد فيها على حقيقة الوعي الإنساني الفطري وأهمية فهم الطبيعة المخلوقة في نظامه الكوني ولقناعته بكل ما كتبه هربرت ريد يقيم معه حوارا افتراضيا في مقدمة الكتاب.
في الفصل الأول يتصدى لأصول الفن الحديث فيؤكد على أن تأسيس المدارس الفنية لا يبرهن على أنها قد خَطَت خطوات متتابعة إلى الإمام، فبعد انبثاقها نرى تراجعا في مسيرتها رغم أننا نلمس حراكا متسما بالحيوية يترافق مع ظهورها، لكن ما إن يتحقق هذا الانبثاق حتى يصيبها انكماش في زمن قياسي سريع بحيث لا تتحقق من خلالها مناخات ثقافية كافية تستفيد منها الأجيال القادمة، ويضرب مثالا على ذلك: فن الفخار في بلاد ما بين النهرين والمنحوتات الخشبية في المسرح الإليزابيثي واللوحات الفنية في مدينة فينسيا. هذا ما يجعله يَطرح سؤالا بهذا الخصوص: كيف ظهرت هذه الإبداعات ثم غابت بدون أن تحقق استمرارا في مسيرة الأجيال اللاحقة؟ وتبقى الإجابة معلقة وتحتاج إلى بحوث ودراسات لمعرفة أسباب هذا الاختفاء.
هذا التساؤل يطرح دائما في الأوساط الفنية، ويحاول عبد الكريم فرج الإجابة عليه، فهو يجد في مجتمعات تعيش تحولات شاملة لا بد أن يكون التجريب أساس عملية الخلق والإبداع، والفن من الفعاليات المعنية أكثر من غيره في ابتكار الطرق لخلق مفاهيم وعوالم جديدة، وخلق مثل هذه العوالم المرئية سيكون مدعاة لخلق رؤية أو نظرية جديدة في الفن.
ريادة سيزان
في معرض تناوله بدايات الحداثة في الرسم يتوقف أمام الدور الريادي للرسام الفرنسي سيزان (1839-1906) وما كان يمتلكه من تصميم لرؤية العالم بشكل موضوعي، كجسم منظور بدون أي تدخل سواء من العقل المنظم أو من العواطف العشوائية. هذا المسار في الرؤية لدى سيزان يجده المؤلف يتباين مع زملائه الانطباعيين الذين عاصروه، حيث كانت رؤيتهم ذاتية وغير موضوعية إلى العالم، بمعنى انهم كانوا يرونه من خلال حواسهم وضمن أضواء مختلفة، فلكل لحظة انطباعها المختلف على حواسهم. وعلى ذلك يرى أن سيزان من الثوريين الذين تحكمهم فكرة واضحة لكنها تتطلب الجدية والمثابرة لإثبات وجودها. ويضيف أن تاريخ الفن مليء بالمحاولات الجادة، بعضها كان تقليديا يحاكي الفن الكلاسيكي اليوناني والروماني، والبعض الآخر يحاكي عصر النهضة، وقد عرف تاريخ الفن نشاطا ملحوظا من أجل ادراك الموضوع المرئي كصورة مسطحة ثنائية الأبعاد حتى أنه قبل سيزان كان بعض الفنانين ينظرون للموضوع بملكة الخيال لنقل الأجسام إلى العالم المرئي، والبعض بذل جهودا ادراكية عقلية لخلق فضاء تصويري تشغله أشكال مثالية، وآخرون حددوا رؤياهم عبر الرسم المنظوري، كتمثيل دقيق لما تراه العين، وجاء آخرون رفضوا هذه الرؤية بحجة أن المنظور لا يعطينا أي لمحة عن الواقع، لأن الواقع في هذا السياق مجرد سراب، وهو حقيقة نستطيع رؤيتها ولكننا لا نستطيع ادراكها لان الطبيعة دائما شيء والفن شيء آخر.
ظهور الحداثة
في سياق السرد التاريخي لرصد بدايات الحداثة الفنية في أوروبا، هناك إشارة إلى أنها كانت في نهاية القرن التاسع عشر في عدد من البلدان الأوروبية وقد اكتسبت تسميات مختلفة، ففي ألمانيا وفرنسا/الفن الحديث، وفي بريطانيا وأمريكا/الاسلوب الحديث، لكن أي واحدة من هذه التسميات لم تصل إلى اسلوب له صفات شخصية محددة، وأبرز الأسماء التي ارتبطت بالحداثة وكانت ملامحها سطحية في بدايات نتاجاتهم: بول غوغان، فان خوخ، ادوارد مونش، جورج سورا، تولوز لوترك.
وعندما يتجه البحث ناحية الإمساك بالصور الأولى للحداثة وأي مكان بدأت تفرض فيه حضورها، تبرز أمامنا أولوية بريطانيا وكان تأثيرها في مجالي العمارة والفنون التطبيقية، ومنذ العام 1890 انتشرت إلى أوروبا، وفي ما بعد اندمجت التأثيرات الاسلوبية التزينيية مع تلك التأثيرات الحيوية في الرسم والنحت والفنون الغرافيكية بشكل عام، كما تركت تأثيرها في أساليب العمارة الداخلية وأصبحت تظهر بعض ملامح هذه الأسلبة التزينية في رسومات بعض الفنانين مثل: ادوارد مونش، هولدر، بوفي دو شان، وتولوز لوترك وآخرين.
الفن الياباني
الحديث عن التحف واللوحات اليابانية المحفورة على الخشب يأتي في مدار البحث عن المؤثرات الشرقية على حركة الحداثة بسبب ميزاتها الفنية، وهذا التلاقح حصل في منتصف القرن التاسع عشر مع انفتاح التجارة مع اليابان عندها بدأت التحف اليابانية تغمر الأسواق الأوروبية وأصبح الكثير من الفنانين الفرنسيين متحمسين لاقتناء أعمال كلُّ مِن هوكو ساي واوتامارو. ويضيف فرج بهذا الخصوص، لم يمض وقت طويل حتى أصبح تأثيرهم على الانطباعيين واضحا، وظهرت المطبوعات اليابانية المنسوخة في خلفية لوحة (مانيه) وفي صورة شخصية للكاتب اميل زولا عام 1868 وفي لوحة فان كوخ “الأب تانغي” كذلك في لوحته “الصورة الشخصية” ذات الأذن المضمدة عام 1889. وهذا يوضح تأثير المطبوعات اليابانية في التغيير الذي حدث في اسلوب الفنانين الفرنسيين عند استخدامهم لفن الأرابيسك التخطيطي لتطويق المساحات المسطحة للألوان غير المعدلة، وفي التخلي عن المنظور الثلاثي الأبعاد، وفي التعبير عن مفهوم التصوير الرمزي والتصوير المجازي. وهنا يسجل المؤلف ملاحظة تتعلق بالتأثير الفعلي الذي أصبح واضحا في أعمال فان خوخ وغوغان، حيث شعر الفنانان بالرغبة في إبداع شكل فني باللوحات الزيتية يحاكي في القيمة الفنية المطبوعات اليابانية. ويصل المؤلف ازاء هذه الارهاصات التي شهدها القرن التاسع عشر إلى أنها أدت إلى ضياع القوانين المقدسة في الفن.
وفي سعيه لأن يضع القارئ أمام أسماء بعينها كان لها حضور مميز في ظهور الحداثة وفي تأثيرها على بقية الفنانين، يفرد الكتاب مكانة للرسام جورج سورا (1859-1891) اعتمادا على الإنجازات اللافتة التي حققها في وقت قصير جدا من مساره الفني إلا انها لم تكتمل بسبب وفاته المبكرة، حيث برز كمصمم عبقري لنظرية استخدام النقاط الملونة وبادراك أكبر بكثير من الرسام سيزان، وربما بتأنٍ وذكاء أكثر من أي فنان معاصر له آنذاك، هذا لأن سورا تقبّل مزاج العصر العلمي السائد، وأعطى تعبيرا مُجدِدَا عن عصره. وقد ترك تأثيرات عميقة على الرسامين الذين جاءوا بعده مثل بيكاسو، براك، جون غري، كاميل بيسارو.
تراجع الحداثة
الفصل الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان “الاختراق” وفيه يستعرض رأي الباحثين في إطار ملاحظاتهم حول تراجع الحداثة في بداية القرن العشرين، وهنا يستعين بعبارة فرنسية شهيرة تصف هذه المرحلة: “التراجع من أجل وثبة أفضل” بمعنى أن هذا التراجع لم يكن إلا توقفا مؤقتا، وقد شهدت السنوات العشر الأولى من هذا القرن هجرة كبيرة من قبل الفنانين إلى باريس، حيث توجهوا من كل الأنحاء نحو عاصمة النور: بيكاسو، برانكوسي، ارشبينكو، كاندنسكي، كلي، جوان غري، نولده، باولا موديرسون بيكر، فرانس مارك، كارا، بوتشيوني، مودلياني، سيفريني، جون مارين. كما شهد العقد الأول من القرن العشرين ظهور مجموعة فنانين في مدينة ميونخ يمتلكون تركيزا عاليا مثل: ماكس سيلفوت، لويس كورينث، ورافقت حركتهم روح فلسفية أفرزت وثيقتين عن الحركة الفنية الحديثة، الأولى: وثيقة ويلهلم وورينجر، كانت بعنوان “التجريد والاحساس” عام 1908 تظهر فيها ولأول مرة رغبة في افتراض التجريد، باعتباره ظاهرة تاريخية متجددة. أما الثانية فهي وثيقة كاندنسكي حول الروحانية في الفن عام 1912 وفيها تم الإعلان على أن “التجريد يعتبر فنا للتعبير عن حاجة داخلية”.
بالعودة إلى باريس يشير المؤلف إلى أن الفنانين الذين قاوموا الانطباعيين أطلق عليهم الناقد لويس فاوكسيل مصطلح “الوحوش” على سبيل الدعابة أثناء معرض الخريف عام 1905 لأن الوسائل التي استخدموها كانت عنيفة وذات ألوان صارخة، ومن هنا عرفوا “بالوحشيين”. وهذه الحركة بدأت وفقا لتصريحات أطلقها الرسام هنري ماتيس (1869-1954) الذي أصبح في ما بعد رائد المجموعة الوحشية. ويرى ماتيس أن “المحافظة على نقاء الألوان هي التي تكشف حقيقة التكوين” وعرض طريقتين للتعبير عن الأشياء، إما أن يتم اظهارها بشكلها الخام أو بإثارة مكنونات النفس من عواطف وذكريات بشكل فني.
والفصل الثالث من الكتاب يتناول المدرسة “التكعيبية” التي بدأت عام 1907 وانتهت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 مشيراً إلى تأثُّر بيكاسو بتجربة سيزان وأثر ذلك على التكعيبية، وقد برزت في معرض أقيم في باريس عام 1907. أيضا يتطرق إلى تأثير الفن الأفريقي في هذه المرحلة على بيكاسو وعلى عموم الفن الغربي. ثم يعرض لنا تعريف بيكاسو للتكعيبية: “فن يتعامل بشكل أساسي مع الأشكال، فعندما ندرك الشكل يصبح جديرا ان يحيا في الصورة التي تمثله، إذ أن الهدف ليس تحليل الموضوع المعطى فقط، انما خلق بنى شكلية متناغمة ومترابطة”. وبعد الفترة 1912 – 1914 لم يعد الفنان التكعيبي يعتمد على الفكرة أو الصورة المرتبطة بالفكرة، انما على البنية والتركيب. فقد استعمل بيكاسو وبراك لهذه الغاية توليفات من قطع الجرائد والقماش وورق الجدران والصقوها أو أدخلوها في سطح اللوحة الزيتية ووصلوا بينها بخطوط من أقلام الفحم أو مناطق مطلية بالألوان وأطلقوا على هذه التقنية المركبة اسم “الكولاج”. ثم انتقلت هذه الطريقة إلى النحت بعد عامين فتطور النحت التكعيبي بشكل مستقل وارتبط بأسماء مثل: برانكوسي، دوشامب فيللون، كونزالز، ارشيبنكو، ليبتشتز، هنري لورانس وغيرهم.
يلخص عبد الكريم فرج أهمية ما توصل إليه في ختام كتابه: “هذا التطور الصادم في توجهات فن الرسم الحديث لا أحد يملك القدرة على ان يرسم مخططا مستقبليا لصورة الحداثة المقبلة أو المعاصرة لأن سرعة التطور، وتطور المتطلبات والمفاجآت لا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق”.
بقية فصول الكتاب حملت العناوين الآتية: الفصل الرابع/المستقبلية، الدادائية، السريالية. الفصل الخامس/بيكاسو، كاندنسكي، كلي. الفصل السادس/البنائية. الفصل السابع/الضرورات الداخلية للفن الحديث. أما الفصل الثامن فقد تضمن صورا تابعة للنصوص.
عبد الكريم فرج: “تحولات فن التشكيل في أوروبا نحو الحداثة…حوار حول أفكار هربرت ريد”
دار نينوى للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2018
208 صفحات.